عز الدين عاشور... "الطالب الموسيقار" يتغلب على إعاقته البصرية

 

عز الدين عاشور... "الطالب الموسيقار" يتغلب على إعاقته البصرية

 

الخليل-شاءت إرادة الله أن يولد كفيفاً، لكنه جسد أنموذجاً للتحدي والإصرار والإبداع ليتجاوز إعاقته البصرية ويثبت أن الإنسان ما هو إلا قصة طموح، إنه الشاب عز الدين عاشور (26) عاماً، الطالب في فرع الخليل، ويدرس في كلية التنمية الاجتماعية والأسرية، الذي امتلك بصيرة وبعد نظر رغم كونه كفيفاً، فها هو يكمل دراسته في جامعة القدس المفتوحة، وفي الوقت ذاته يتألق في عالم الفن.

يقول عاشور لـ"ينابيع" إن "الإيمان بالله واليقين به أنسياني إعاقتي البصرية، فقد أنعم الله علينا بنعم كثيرة، وما على الإنسان سوى التحدي والإرادة وامتلاك الطموح لتحقيق أهدافه، لقد أبدلني الله عز وجل نوراً في قلبي بدل نور عيني"، مشيراً إلى أن معظم أبناء شعبنا يتعاملون برقي وطيبة مع ذوي الإعاقات، فهم يحرصون على احترامهم والاعتراف بدورهم، ويساعدونهم دون منة، ويفسحون لهم المجال للتعبير والمشاركة والتفاعل.

الأسرة والمدرسة والمجتمع

ولد كفيفاً، وكان ترتيبه العاشر في الأسرة، وله ثلاث أخوة آخرين أكفّاء يعانون جميعاً من "العشا الليلي". يقول عاشور: "كان لوالدي الدور الأبرز في زرع قيم التحدي في نفوسنا، فأنا تعلمت خلال المرحلة الابتدائية في مدرسة الشروق للمكفوفين في مدينة بيت لحم، ثم انتقلت فيما بعد إلى المدرسة الشرعية بالخليل، وكان لأساتذتي في المدرستين أثر كبير في تعزيز الشعور لديّ بأنني إنسان كامل، وكانوا يذكرونني بأن العديد من أعلام البشرية والمبدعين كانوا أكفّاء، فمنهم المجاهدون، والرواة، والشعراء، والفلاسفة، والموسيقيون، والعلماء، والمبدعون، والمخترعون، فتعلقت بقراءة سيرهم وآثارهم، وشدتني تجربة أبي العلاء المعري الشاعر والفيلسوف، وألمعية طه حسين عميد الأدب العربي، وإبداعات المطرب والملحن الكبير سيد مكاوي، وروعة الموسيقى التي تدفقت ألحاناً عذبة من الملحن والمغني الكفيف عمار الشريعي".

الدراسة في جامعة القدس المفتوحة

عندما أنهى عاشور دراسته الثانوية، كانت لديه رغبة جامحة في التسجيل بإحدى الجامعات. قارن بين فرص التعليم المتاحة، فوجد أن جامعة القدس المفتوحة هي أكثر الخيارات التي تناسبه، كما أن معظم أصدقائه من المكفوفين نصحوه بالدراسة فيها، وتحدثوا عن مناهجها المتوافرة على طريقة برايل، ووسائطها، والثقافة السائدة فيها، فقرر الالتحاق بها، وسجل في كلية التنمية الاجتماعية والأسرية. يقول عاشور: "سعدت بالبيئة التعليمية وطريقة التعامل مع الطلبة بوجه عام، ومع الطلبة ذوي الاحتياجات الخاصة بوجه خاص. نعم، تعلمت من الجامعة معارف كثيرة، ومهارات عديدة، وأضافت لشخصيتي الكثير، وأسهمت في بناء شخصيتي، وزيادة تأثيري، وتمكيني النفسي".

ولفت إلى أنه كان يدخل إلى ساحة الجامعة مبتسماً شامخاً متواضعاً، لا يحمل عصا كما اعتاد أغلب المكفوفين، فدليله نور قلبه، يحفظ الأماكن والمسافات، يلقي السلام على الطلبة والعاملين، فيخيل لك أنه أكثر الطلاب شعبية، بما يمتلكه من خفة الظل والروح ودماثة الأخلاق، فهو يكسر القاعدة التي تقول إن المكفوفين يعانون من العزلة وعدم القدرة على الاندماج.

كيف كسر عز الدين العزلة؟ أهي الموهبة التي جعلته محبوباً من قبل زملائه؟ يجيب والابتسامة ترتسم على محياه: "ليست الموهبة وحدها، بل للجامعة إسهام في أن أكون مشهوراً ومعروفاً".

موهبة العزف على الآلات الموسيقية

يتحدث عاشور عن موهبته الموسيقية، فيشير إلى أنه منذ نعومة أظفاره كان يشعر بإحساس داخلي عميق، يشبه طاقة ضوء هائلة ترسم حلماً وتُعلي أملاً وتحادي روحاً حالمةً بالتميّز، اكتشف أنه يملك أذناً موسيقية، وأوتار حنجرة تملي عليه أن يدندن لحن أغنية كلما جلس أو مشى وحده يتأمل وينصت إلى الطبيعة وما فيها من أصوات وجماليات ساحرة، فأخذ ينمي هذه الموهبة منذ المرحلة الابتدائية في مدرسة الشروق ببيت لحم، ثم التحق بمعهد إدوارد سعيد للموسيقى في بيت لحم، وأصبح يجيد العزف على ثلاث آلات موسيقية، هي: القانون، والعود، و"الأورغ"، وكان حلمه أن ينشر الثقافة الموسيقية في محافظته إيماناً منه أن الموسيقى تسهم في معالجة ومواجهة كل المظاهر غير المقبولة من عنف وتعصب وانغلاق، فقرر في العام 2020 افتتاح مدرسة للموسيقى في محافظة الخليل سماها مدرسة "RAST" وهو اسم مقام موسيقي، وهكذا أصبح يشارك في كثير من المناسبات الدينية والوطنية، وما زال طموحه يتعالى في هذا المجال، ويعمل على صقل موهبته بالتعلم والمتابعة الممارسة الدائمة. إضافة إلى ذلك، فهو يعمل في مجال استيراد وتوزيع الآلات الموسيقية في الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948.

مختبر المكفوفين

وعن رأيه في مختبر المكفوفين في فرع الجامعة بالخليل، يؤكد عاشور أنه يعدّ من أفضل الخدمات التي تقدمها الجامعة لذوي الإعاقات البصرية، فهو يمكنهم من الاستفادة من الخدمات والإمكانات الهائلة في مجال الحاسوب، ومواكبة التطور التقني في هذا الشأن، بتطبيقاته والآفاق اللامحدودة، وهذا يسهم في تعزيز ثقتهم بأنفسهم وقدراتهم.

ويوجه الطالب عاشور تحياته وشكره للجامعة، ولرئيسها أ. د. يونس عمرو، ولمدير الفرع وأعضاء الهيئتين التدريسية والإدارية في الجامعة؛ لما أبدوه من محبة وتعاون ودعم.

مدير فرع الخليل: رسالتنا إنسانية وطنية

يعلق د. تيسر أبو ساكور على حالة عاشور قائلاً: "جامعة القدس المفتوحة رسالتها إنسانية ووطنية، وكانت دائماً بتوجيهات رئيس الجامعة لنا بأن فئة ذوي الاحتياجات الخاصة يجب رعايتهم والاهتمام بهم ومساعدتهم وتأهيلهم وتمكينهم، فحرصت الجامعة على أن تكون مبانيها مؤهلة لاستقبالهم من حيث البنى التحتية، التي تراعي سهولة دخولهم وخروجهم واستخدامهم للمرافق الخاصة. أما بخصوص المكفوفين، فإن الجامعة خصصت مختبرات لهم لكي يكونوا قادرين على استخدام التكنولوجيا الحديثة المتطورة في تعليمهم وتواصلهم، بتعليمات رئيس الجامعة للعاملين كافة بالحرص على توفير كل ما يتطلب اندماجهم في مجتمع الطلبة، والكثير من هؤلاء تخرجوا، وهم الآن إما موظفون في القطاع الحكومي أو الخاص، أو لديهم مشاريع صغيرة منتجة، تكفل لهم حياة كريمة.

قوة الإرادة تغلبت على الإعاقة

يقول أ. مراد الجندي، أحد الأساتذة الذين تعاملوا مع عز الدين ودرّسوه: "كان على مدار سنوات دراسته مثالاً للالتزام والاجتهاد والمتابعة، فالإعاقة البصرية التي لازمت حياته لم تثنه عن إكمال دراسته الجامعية وتنفيذ الأعمال المطلوبة منه، سواء على مستوى المقررات النظرية أو التطبيقية الميدانية، فكان ملتزماً مجتهداً مثابراً".